((( الحرفُ .. حنينٌ و أنينٌ )))) للحرفِ عظمته في إبلاغ المُراد ، و صولتُه في إيصال المقصود ، حيث كان تعبيراً عمَّا يُخالجُ النفسَ ، و إظهاراً لما يبوح بالخاطر .
لمكانته الكُبرى أُوْليَ العناية العظيمة من أساطين لكلام ، و رُوْعِيَ
مقامُه من سلاطين البلاغة ، فوضعوا له من أصول الرعايةِ و أُسُسِ الحمايةِ
ما دفع بالدُخلاءِ خارج الدائرة ، و أبقى الشرفاء في تحقيق الوظيفة .
حَظيَ الحرفُ بتلك الرعاية الفريدة ، و التي لمْ يَحْظَ بها شيءٌ سواه ،
فمن عناية بضبْطِ المبنى إلى ضبطٍ من حيثُ المعنى ، و بيانٍ لأحوال مجيئه
مُفرداً و مُركَّباً ، فانتظمَ العملُ منظومةً متكاملةً في إيفائه حقَّه ،
و لا زالَ التقصير باقيا .
كان الحرفُ ذا سُلطانٍ في تلك الحال ، و كان يَخلَع على نفسِه خِلعةَ
المهابة و الإجلال ، إذْ كان في يَدٍ تعرفُ قدرَه و منزلتَه ، و تُدركُ
مقامه و مكانتَه ، فكانت تضع الحرفَ على الورقِ الكريم الطاهرِ حِساً و
معنى ، و تستعمله في المقاصد المُستحسنة ، و المُرادات الحسَنَة ، و كان
كلُّه عينٌ لا حشوَ فيه و لا منه ، فأدرك اللاحقُ قُدسيتَه ، و عرفَ
الخالفُ مرتبتَه .
إلا أن بقاءَ الحالِ من المُستحيلات ، و ديمومةَ الكمالِ من الخبال ، فإن
تلك القُدسيةَ الحَرْفيةَ نالها ما ينالُ الدُّول ، و لَحَقَها ما يلحَقُ
البَشَر ، فانقلبَ الحالُ ، و انتكسَ الميزان ، فتلقَّفَ الحرفَ كلَّ
جاهلٍ لا يَعرفُ مخرجَ الحرفَ ، و لا يدري له صِفةً ، فغابَ عنه المعنى و
اختلَّ لديه المبنى ، فوضع الحرفَ في موضع السُّوء ، و أنزله في محلَّة
البوار .
يَتبعُ الحرفُ كلَّ معنى راقٍ صادقٌ فيه صاحبه ، و لو كان المُخالِف كثيرٌ
، فجمالُ الحرفِ في صِدقِ المقاصد ، و كمالُه في مضمونه ، فلا يَعرفُ
الحرفُ إلا المضامين الباطنة ، و أما المظاهرُ فلا يقفُ عندها لأنها حرفُ
حتْفٍ .
ارتباطُ الحرفِ بالإنسانِ متينٌ ، يجعلُه في حنينٍ دائمٍ إلى تلك الأنفسِ
الطاهرة التي كانت تقفُ به وقفةَ الشموخِ و الرفعة ، فتنشُرَ به المعاني
الرفيعة ، و المقاصد الرائعة الجميلة ، و الدلالاتِ الماتعة .
حنينُ الحرفِ إلى أناملِ العِزِّ التي قيَّدتْ أبلغَ عبارات التمجيد
للغايات الحِسان ، و التي كان الحرفُ فيه الناطق الرسميُّ بقوةِ مئاتِ
السلاطين ، و كان القليلُ منه يغلبُ جيشاً من الغَيِّ عرمرماً .
حنينُ الشوقِ في حرفِ الذوقِ يَسوقُ العربيَّ إلى صيانة الحرفِ من عبثِ
صِبيةٍ طالما أَنَّ الحرفُ أنيناً طوالَ ليلِ التخلُّفِ و المَسْكنة ، و
من سَطوةِ ذوي رأيٍ هابطٍ ساقطٍ لا يرتقي بهم فكرهم لبناءٍ و لا إعمارٍ
عقلي ، و إنما تجميدٌ على وصفٍ واحدٍ بألفِ حرفٍ خالدٍ ، فتنوَّعتِ
الأحرفُ و الوصفُ هوَ ذاتُه .
حنينُ الإبداعِ في حرفِ اليراعِ يَقود ذا الفكرِ إلى إعمالِ وظيفةِ الحرفِ
في خَلْقِ الجديد ، فليسَ عاجزاً عَن احتواءٍ راقٍ ، و ليسَ قاصراً عن
شُمولٍ واسعٍ ، فما عَدِم سوى عقلاً يستعملُه ، و فكراً يستخدمه .
ألمُ الحرفِ : وَجعٌ و فَزَعٌ ، همٌّ و غَمٌّ ، رَيْبٌ و عَيْبٌ .
و أملُهُ : سُموٌّ و عُلوٌ ، شُموخٌ و رُسوخٌ ، كمالٌ و جمالٌ .