النفاق
حقيقته ، أنواعه ، صوره
تمهيد :
كثر الحديث في القرآن الكريم عن النفاق والمنافقين ، صفاتهم وأخلاقهم وأنهم شر أنواع الكفار ، وأن مصيرهم في الدرك الأسفل من النار ، ومن ثم تحذيرالمؤمنين منهم لأن « بلية المسلم بهم أعظم من بليته بالكفار المجاهرين ، ولهذا قال تعالى في حقهم : [ هم العدو فاحذرهم ] [المنافقون : 4]
، ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر ، أي لا عدو إلا هم ، ولكن لم يرد ها هنا لحصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم ، بل هذا من إثبات الأولية والأحقية لهم في هذا الوصف ، وأنه لايُتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوابأعدائهم ، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار ، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها ، فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم ، لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً ثم تنقضي ويعقبها النصر والظفر ، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً ، يدلون العدو على عوراتهم ، ويتربصون بهم الدوائر ،ولا يمكنهم مناجزتهم ، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله : (نبه الله سبحانه وتعالى على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون ، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر ، وهذا من المحذورات
الكبار أن يظن بأهل الفجور خيراً) [2] ، وسيكون حديثنا في هذا المقال عن تعريف
النفاق ، ثم نذكر أنواعه ، ونركز الحديث على النفاق المخرج من الملة باعتباره
المقصود الأساس من بحثنا .
تعريف النفاق :
اختلف علماء اللغة في أصل النفاق ، فقيل إن ذلك نسبة إلى النفق وهوالسرب في الأرض لأن المنافق يستر كفره ويغيبه ، فتشبه بالذي يدخل النفق يستتر فيه .
وقيل : سمي به من نافقاء اليربوع ، فإن اليربوع له جحر يقال له : النافقاء ،
وآخر يقال له : القاصعاء ، فإذا طلب من القاصعاء قصع فخرج من النافقاء ، كذا
المنافق يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي يدخل فيه ، وقيل : نسبة إلى نافقاء
اليربوع أيضاً ، لكن من وجه آخر وهو إظهاره غير ما يضمر ذلك : أنه يخرق
الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض ترك قشرة رقيقة حتى لا يعرف مكان هذاالمخرج ، فإذا رابه ريب دفع ذلك برأسه ، فخرج ، فظاهر جحره تراب كالأرض ،وباطنه حفر ، فكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر [3] .
ولعل النسبة إلى نافقاء اليربوع أرجح من النسبة إلى النفق (لأن النفق ليس
فيه إظهار شيء ، وإبطان شيء آخر ، كما هو الحال في النفاق ، وكونه مأخوذاً من
النافقاء باعتبار أن المنافق يظهر خلاف ما يبطن ، أقرب من كونه مأخوذاً منه باعتبار أنه يخرج من غير الوجه الذي دخل فيه ، لأن الذي يتحقق فيه الشبه الكامل بين النافقاء والنفاق هو إظهار شيء وإخفاء شيء آخر ، إضافة إلى أن المنافق لم يدخل في الإسلام دخولاً حقيقياً حتى يخرج منه) [4] .
أما النفاق في الاصطلاح الشرعي فهو إظهار القول باللسان أو الفعل بخلاف ما في القلب من القول والاعتقاد [5] ، أو هو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه ، وهواسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به ، وإن كان أصله في اللغةمعروفاً كما سبق [6] .
وأساس النفاق الذي بني عليه : أن المنافق لابد وأن تختلف سريرته وعلانيته، وظاهره وباطنه ، ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى : [ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ] [البقرة : 10] ، وقال : [ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ] [المنافقون : 1] وأمثال هذا كثير « [7] .
إذاً : أخص وأهم ما يميز المنافقين الاختلاف بين الظاهر والباطن ، وبين
الدعوى والحقيقة كما قال تعالى : [ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخروما هم بمؤمنين ] [البقرة : 8] ، قال الإمام الطبري رحمه الله : (أجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم) [8] .
وقد يطلق بعض الفقهاء لفظ الزنديق على المنافق ، قال شيخ الإسلام رحمه
الله : » ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ (الزنديق) وشاعت في لسان الفقهاء ، وتكلم الناس في الزنديق : هل تقبل توبته ؟ والمقصود هنا : أن (الزنديق) في عرف هؤلاء الفقهاء ، هو المنافق الذي كان على عهد النبي -
سلم- ، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره ، سواء أأبطن ديناً من الأديان : كدين اليهود والنصارى أو غيرهم ، أو كان معطلاً جاحداً للصانع والمعاد والأعمال الصالحة … « [9]
، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان مراتب المكلفين في
الدار الآخرة وطبقاتهم : ) : (الطبقة الخامسة عشر) : طبقة الزنادقة ، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل ، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله ، هؤلاء هم المنافقون ، وهم في الدرك الأسفل من النار » [10] .
1- النفاق الأصغر :
الأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو وأبي
هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم ، في ذكر آية المنافق ، فعن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي -
سلم- قال : « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا إئتمن خان » [11] .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي -
سلم-قال: « أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ،وإذا خاصم فجر »
[12] ، قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث :
(هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في
المسلم المصدق الذي ليس فيه شك ، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ، ولا هو منافق يخلد في النار ، فإن أخوة يوسف -
سلم-جمعوا هذه الخصال ، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله ، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال ولكن
اختلف العلماء في معناه ، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار ،
أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق ، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال
ومتخلق بأخلاقهم ، فإن النفاق إظهار ما يبطن خلافه ، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال ، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يُردالنبي -
سلم-بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار ، وقوله -
سلم- (كان منافقاً خالصاً) معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال ، قال بعض العلماء هذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه ، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه ، فهذا هو المختار في معنى الحديث … ) [13] .
وقال الإمام الخطابي رحمه الله : (هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار
للمرء المسلم ، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال ، فتفضي به إلى النفاق ، لا أن
من بدرت منه هذه الخصال ، أو فعل شيئاً من ذلك من غير اعتياد أنه منافق)[14].
وقال أي الخطابي : « ويدل عليه التعبير بإذا ، فإنها تدل على تكرارالفعل » [15] ، وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال : ) والأولى ما قاله الكرماني : إن حذف المفعول من (حدّث) يدل على العموم ، أي إذا حدّث في كل شيء كذب فيه ، أو يصير قاصراً ، أي إذا وجد ماهية الحديث كذب ، وقيل محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخف بأمرها ، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالباً « [16] ، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعدما شرح هذه الخصال : » وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن … « [17] .
ومن هذا الباب الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين [18] ، قال
النبي
سلم : » من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق « [19] ، ومن ذلك ما رواه البخاري في » باب : ما يكره من ثناءالسلطان ، وإذا خرج قال غير ذلك « : » قال أناس لعبد الله بن عمر : إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم ، قال : كنّا نعدهانفاقاً « [20] .
وهذا هو النفاق الذي خافه الصحابة على أنفسهم ، يقول ابن رجب [21] :
(ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية
خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند
سماع الذكر ، برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقاً ، كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي : أنه مر بأبي بكر وهو يبكي ،فقال : مالك ؟ قال : نافق حنظلة يا أبا بكر ، نكون عند رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين ، فإذا رجعنا ، عافسنا الأزواج والضيعة
فنسينا كثيراً ، قال أبو بكر : فالله إنا لكذلك ، فانطلقنا إلى رسول الله -
سلم- ، فقال : » مالك يا حنظلة ؟ « قال : نافق حنظلة يا رسول الله وذكرله مثل ما قال لأبي بكر ، فقال رسول الله -
سلم- : » لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي ، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي
طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة « [22] .
ومما ورد في هذا المعنى أي خوف الصحابة من النفاق ما قاله ابن أبي مليكة: » أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -
سلم- كلهم يخاف النفاق
على نفسه ما منهم أحد يقول : إنه على إيمان جبريل وميكائيل « [23] ، يقول الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الأثر : » والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبةبن الحارث والمسور بن مخرمة ، فهؤلاء ممن سمع منهم ، وقد أدرك بالسن جماعة
أجل من هؤلاء كعلي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال ، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشعر به مما يخالف الإخلاص ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم ، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم « [24] .
وخلاصة القول في النفاق الأصغر ، أنه نوع من الاختلاف بين السريرة
والعلانية مما هو دون الكفر ، وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل وكإظهار مودة الغير والقيام بخدمته مع إضمار بغضه والإساءة إليه ، كالخصال الواردة في حديث شعب النفاق ونحو ذلك ، فعلى المسلم الحذر من الوقوع في شيء من ذلك .
2- النفاق الأكبر :
سبقت الإشارة إلى تعريفه عند الكلام عن النوع الأول ، ويمكن اختصار تعريفه بتعريف ذكره الحافظ ابن رجب حيث قال رحمه الله : ) النفاق الأكبر ، وهو
أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر ، ويبطن مايناقض ذلك كله أو بعضه ، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله –
سلم- ، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم ، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار » [25] ، ومن الآيات في تكفيرهم ومصيرهم في الآخرة قوله تعالى :
[ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ] [البقرة : 8] ، وقوله …
عز وجل : [ بشر المنافقين بأن لهم عذاباْ أليماْ ] [النساء : 138] ، وقوله سبحانه: [ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ] [النساء : 145] ، وقوله تعالى :
[ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ] [التوبة : 68] ، وقوله تعالى : [ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ، يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمَوا بما
لم ينالوا ] [ التوبة : 73 ، 74]
وقوله عن طائفة من المنافقين : [ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ] [التوبة : 66]
فهذه الآيات تبين لنا أن المنافقين من أسوأ أنواع الكفار ، ومصيرهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار ، لأنهم زادوا على كفرهم ، الكذب والمراوغة والخداع للمؤمنين ، ولذلك فصل القرآن الحديث حولهم وحول صفاتهم لكي لايقع المؤمنون في حبائلهم وخداعهم