أمُّ الذبيح (هاجر)
هناك.. فى صحراء مكة القاحلة.. حيث لا زرع ولا ماء.. ولا أنيس ولا
رفيق.. تركها زوجها هي ووليدها.. ثم مضى في طريق عودته، وترك لهم تمرًا وماءً.
فنادته زوجته وهى تقول: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي،
الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فلم يلتفت إليها الزوج، وكأنه على يقين من وعد الله
الذي لا يتخلف ولا يخيب.
فقالت الزوجة -وكأنها أدركت أن أمرًا ما يمنع زوجها من الرد عليها-:
الله أمرك بهذا؟
فيرد الزوج: نعم.
فتقول الزوجة التي آمنت بربها، وعرفت معنى اليقين بصِدْقِ وَعْدِ
الله، وفهمت كيف تكون معينة لزوجها على طاعة ربها، تقول في غير تردد ولا قلق: إذن
لا يضيعنا. وانصرف إبراهيم -عليه السلام- وهو يدعو ربه ويقول: (رَبَّنَا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) [إبراهيم/37-39]).
ونفد الماء والزاد، والأم لا تجد ما تروى به ظمأ طفلها، وقد جفّ
لبنها فلا تجد ما ترضعه. فيتلوى الطفل جوعًا وعطشًا، ويصرخ، ويتردد في الصحراء والجبال
صراخه الذي يدمي قلب الأم الحنون.
وتسرع الأم وتصعد على جبل الصفا، لتنظر أحدًا ينقذها هي وطفلها من
الهلاك، أو تجد بعض الطعام أو الشراب. ولكنها لا تجد فتنزل مسرعة وتصعد جبل
المروة، وتفعل ذلك سبع مرات حتى تمكن منها التعب، وأوشك اليأس أن يسيطر عليها،
فيبعث الله جبريل -عليه السلام- فيضرب الأرض بجناحه؛ لِتَخْرُجَ عينُ ماءٍ بجانب
الصغير، فتهرول الأم نحوها وقلبها ينطلق بحمد الله على نعمته، وجعلت تغرف من
مائها، وتحاول جاهدة إنقاذ فلذة كبدها، وتقول لعين الماء: زُمّي زُمّي، فسميت هذه
العين زمزم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ
إِسْمَاعِيلَ ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ
الْمَاءِ - لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا » " [البخاري برقم (2368 )].
إنها هاجر، أم إسماعيل، وزوجة إبراهيم خليل الله - رضي الله عنها -.
عُرِفَتْ في التاريخ بأمِّ العَرَب العدنانيين.
وَهَبَهَا ملكُ مِصرَ إلى السيدة سارة -زوج إبراهيم الأولى-، عندما
هاجرا إلى مصر. ولما أدركت سارة أنها كبرت في السن، ولم تنجب، وهبت هاجر لزوجها
ليتزوجها، عسى الله أن يرزقه منها الولد.
وتزوج إبراهيم -عليه السلام- السيدة هاجر، وبدت عليها علامات الحمل،
ثم وضعت إسماعيل -عليه السلام- ووجدت الغيرة طريقها إلى قلب السيدة سارة، فكأنها
أحست أنها فقدت المكانة التي كانت لها في قلب زوجها من قبل، فطلبت منه أن يأخذ
السيدة هاجر بعيدًا عنها، فأخذها سيدنا إبراهيم -عليه السلام- إلى صحراء مكة،
بأمرٍ من الله، ولحكمة يريدها عز وجل، وحدث ما حدث لها ولوليدها.
ومرت الأيام بطيئة ثقيلة، حتى نزل على هاجر وابنها إسماعيل بعض أناس
من قبيلة "جُرْهُم" وأرادوا البقاء في هذا المكان؛ لما رأوا عندها
الماء، فسمحت لهم بالسكن بجانبها، ومشاركتها في الشرب من ماء زمزم، واستأنست بهم،
وشبَّ الطفل الرضيع بينهم، وتعلم اللغة العربية منهم، ولما كبر تزوج امرأة منهم.
هذه هي هاجر أم الذبيح وأم العرب العدنانيين، رحلت عنا بعدما تركت
لنا مثالا رائعًا للزوجة المطيعة، والأم الحانية، والمؤمنة القوية ؛ فقد أخلصت
النية للَّه تعالى، فرعاها في وحشتها، وأمَّنها في غيبة زوجها، ورزقها وطفلها من
حيث لا تحتسب.
وقد جعل الله - سبحانه - ما فعلته السيدة هاجر - رضي الله عنها- من
الصعود والسعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج.
و توفيت ، ودفنها إسماعيل -عليه السلام- بجانب
بيت الله الحرام.