مما راق لي
لسنيّ الشباب انتعاش وخفّة ونظارة لن تعود مرة أخرى مهما تمنينا وعمل العطّار فينا ما عمل..
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟!
لا أعتقد أن أبا العتاهية يشتاق فقط إلى نظارة الوجه وقوة الحركة في قوله:
ألا ليت الشباب يعود يومًا *** فأخبره بما فعل المشيب
وإنما شوقه إلى حياة الشباب ولحظاته وأيامه.. كي يستدرك ويعيد الحسابات ويتأمل ذاته ويصلح من شأنها.
من الأمور التي دائمًا ما ننتقدها على بعض الشباب: التصرفات الطفولية، بقايا اضطرابات سن المراهقة، الأفعال اللامسؤولة.. ونحوها، وهذه أتفق مع أصحاب النقد في نقدهم لها، ودعوة الشباب إلى تصحيح أوضاعهم معها، لكنني في ذات الوقت أنتقد -كإنسان في منتصف شبابه- أمورًا أخرى أظنها لا تقل سوءًا عما اشتهر انتقاده في الشباب.
مَجْمَع هذا النقد أستحضره حين أرى شابًا أكبر من سنه. لا أقصد أكبرَ في وعيه، ولا خبرته، ولا حسنَ كلامه، وإنما أقصد أنه أكبر من سنه في انغلاقٍ تصرفاته وكأنه ابن الستين والسبعين، على أني أنتقد هذا الانغلاق حتى عند كبار السن إذا كان من آثاره انتزاع الرحمة من القلوب، وجفاء الأخلاق.
أشفق على شابٍ قد حدّت ملامحه وكأنك تبصر ملامح شيخٍ طاعن في السن، حيث الجدّية التامة، واندماج المساحة الحميمية والشخصية والاجتماعية في مساحة واحدةٍ ضيقةٍ تكاد تكون منعدمة، واتساع المساحة العامة ليستوي عنده الصديق والغريب، والقريب والبعيد.
نعم.. هذا انتقادٌ يَسَعُ الكهول والمسنين، لكني أخص الشباب هنا؛ لأن المتوقع من مرحلة الشباب أن تكون أكثر المراحل انفتاحًا مع الموقف، والبسمة، بل وحتى أكثر انفتاحًا في رسم حدود المسؤولية الملقاة على الشاب كربّ بيت أو عمل.. ونحوها.
يجب أن نعلم بأن هناك فرقًا بين (الجدّية) و(الثقل) و(المسؤولية) و(عدم الهوان)، وبين (ثقالة الدم) و(الكبر) و(الجفاء)، وعلينا أن نتذكر أنه لا يشفع لنا تسمية (الغرور) (رجولة) ولا (الانغلاق) (اتزانا)، وأن الصفات السلبية تبقى كذلك ولو أطلقنا عليها مسمياتٍ أخرى.
خطورة هذا الأمر يتعدى حين يؤثر على الاهتمامات والعلاقات القريبة، لأنه يصنع حدودًا ضيقة وقاسية تقتل الإبداع في إنشاء العلاقات، وتسبب النفور بين الأحبة، وتصعّب البحث عن جديد الهوايات، وتقتل الاهتمامات السابقة، وتحارب الانفتاح على الغير.. والمشاركة، وهذا (الغير) يشمل المقربين والأباعد من الناس، ليختفي الودّ في مكانٍ ما، ويقل التفاعل مع المواقف والقفشات، وتخفت البسمة.. ويتبدل الانتعاش والنظارة إلى جفاء ويُبوسٍ.. وتعقيدٍ يتجاوز المسؤولية.
كنت ولا زلت أسأل نفسي: أصحاب هذه المشكلة.. ما الذي يريدونه من التجمعات؟! ولماذا يحضرون المناسبات؟! وماذا تعني لهم العلاقات والصداقات.. والحب؟!
قلوبٌ كأنها الحجر، وحدودٌ ضيقة.. لا وجود أبدًا لأي مساحة تسع الودّ والتقدير والاحترام، فضلًا عن الحب والمزح والابتسامة.
أستحضر أثناء كتابتي لهذا المقال كهولًا على أبواب الأربعين، لكنهم شبابٌ في أرواحهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم، فأثر ذلك حتى على أحاديثهم وعلاقاتهم وملامحهم ونظارة وجوههم، وكانوا منتعشين ومنعشين، دون أن يهونوا أو يسهل الهوان عليهم.
بينما أستحضر شبابًا في العشرينات من أعمارهم وقد ضعف عندهم التفاعل الإيجابي مع المواقف، والطرائف، والعلاقات، والقفشات، وتمكنت منهم مسؤولية زواج أو دراسة أو وظيفة وغيرها من همومٍ دنيوية لا ينجوا منها أحد، لترى نفسك وكأنك أمام مسنٍّ لن تلومه كثيرًا إذا كان صعب المراس.
أقول هذا الكلام ولا أنفي المحبة عنهم، ولا أنزع الاحترام من شخصياتهم، وإنما أنتقد ظاهر أفعالهم وأخلاقهم وملامحهم والتي لا شك أنها تجني على طاهر قلوبهم وبياض نياتهم.
علينا ألا نسمح أبدًا لروتين الدراسة أو الوظيفة ولا حتى المسؤولية.. وكذلك الهموم، أن تتمكن منا وتصنع من حولنا حدودًا لا تنتج في النهاية إلا تضخم (الأنا) عندنا، وتجعلنا نتصف بالتجهم والأنانية وثقالة الدم.. والتحدّي الدائم على الزعل، وترقب الفراق والتجول حول حمى الغضب والنفور.