ما أصعب أن يبلغ الإنسان خبر نعي عزيز أو قريب ويكون بعيد عليه فلا يستطيع أن يراه ولا يرى جثته ............يا ليت شعري وما يجدي لساني وما يفهم بياني فلا أحول بينكم وبين من عان ذلك فهو أعلم الناس بهذا فها هو المتنبي وقد بلغه كتاب من جدته لأمه تشكو شوقها إليه، وطول غيبته عنها، فتوجّه
نحو العراق ولم يُمكنه دخول الكوفة على حالته تلك، فانحدر إلى بغداد، وكانت جدته
قد يئست منه، فكتب إليها كتابا يسألها المسير إليه، فقبّلت كتابه، وحُمّت لوقتها سرورا به
وغلب الفرح على قلبها فقتلها(
ألا لا أُري الأحداثَ حمْدًا ولا ذمَّا...........فما بطشُها جهلا ولا كفُّها حِلما
إلى مثل ما كان الفتى مرجعُ الفتى.........يعود كما أُبدي ويُكْري كما أرمى
لك الله من مفجوعة بحبيبها..................قتيلةِ شوقٍ غيرِ ملحقها وصْما
أحنُّ إلى الكأس التي شربت بها.............وأهوى لمثواها التراب وما ضمّا
بكيت عليها خيفةً في حياتها.................وذاق كلانا ثكلَ صاحبِه قِدْما
ولو قتل الهجر المحبين كلهم................مضى بلد باقٍ أجدَّت له صرما
منافعها ما ضر في نفع غيرها..............تغذّى وتروى أن تجوع وأن تظما
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا............فلما دهتني لم تزدني بها علما
أتاها كتابي بعد يأس وترحة................فماتت سرورا بي فمتُّ بها همَّا
حرامٌ على قلبي السرورُ فإنني.............أعدُّ الذي ماتت به بعدها سُمّا
تعجّبُ من خطِّي ولفظي كأنها.............ترى بحروف السطر أغربةً عُصما
وتلثُمه حتى أصار مدادُه....................محاجرَ عينيها وأنيابَها سُحما
رقا دمعُها الجاري وجفّت جفونُها..........وفارق حبي قلبَها بعد ما أدمى
ولم يُسْلِها إلا المنايا وإنما...................أشدُّ من السُّقم الذي أذهب السقما
طلبت لها حظا ففاتت وفاتني...............وقد رضيتْ بي لو رضيتُ بها قَسما
فأصبحت أستسقي الغمامَ لقبرها...........وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصُّمّا
وكنت قبيل الموت أستعظم النوى.........فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى
هبيني أخذت الثأرَ فيك من العدا...........فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمّى
وما انسدّت الدنيا علي لضيقها..............ولكن طرفا لا أراك به أعمى
فوا أسفا أن لا أُكبّ مقبّلا.....................لرأسِك والصدرِ الذي مُلئا حزما
وألا ألاقي روحَك الطيِّبَ الذي..............كأن ذكيَّ المسكِ كان له جسما
ولو لم تكوني بنتَ أكرمِ والدٍ................لكان أباك الضخمَ كونُك لي أمَّا
لئن لذَّ يوم الشامتين بيومها..................فقد ولدتْ مني لأنْفِهِمِ رَغْما
تغرّب لا مُستعظمًا غير نفسه...............ولا قابلا إلا لخالقه حُكما
ولا سالكا إلا فؤاد عجاجةٍ....................ولا واجدا إلا لمَكرُمَةٍ طعما
يقولون لي : ما أنت في كل بلدة؟...........وما تبتغي؟ ما أبتغي جلّ أن يُسمى
كأن بَنيهم عالمون بأنني......................جلوبٌ إليهم من معادنِه اليُتما
وما الجمع بين الماء والنار في يدي........بأصعبَ من أن أجمع الجِدَّ والفهما
ولكنني مستنصرٌ بذبابِه.....................ومرتكبٌ في كل حال به الغشما
وجاعلُه يوم اللقاء تحيتي.....................وإلا فلست السيِّدَ البطلَ القرما
إذا فلّ عزمي عن مدى خوفُ بعده.........فأبعدُ شيءٍ ممكنٌ لم يجد عزما
وإني لمن قوم كأن نفوسهم..................بها أنَفٌ أن تسكن اللحم والعظما
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي.............ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
فلا عبَرتْ بي ساعةٌ لا تُعزُّني.............ولا صحبتْني مهجةٌ تقبلُ الظُّلما