وقال أيضا رحمه الله:
وأما الفرق بين المداراة والمداهنة:
فالمداهنة: ترك ما يجب لله من الغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي، وهوى نفساني، كما في حديث: "إن
من كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة، أنكروها ظاهراً، ثم أصبحوا من
الغد يجالسون أهلها، ويواكلونهم ويشاربونهم كأن لم يفعلوا شيئا بالأمس" 1. فالاستئناس والمعاشرة، مع القدرة على الإنكار، هي المداهنة.
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم
لم تدْم ناقتهم بسيف قدارِ
وأما المداراة، فهي: درء الشر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، أو حصل منه أكبر مما هو ملابس؛ وفي الحديث: "شركم من اتقاه الناس خشية فحشه"، وعن عائشة، رضي الله عنها: "أنه
استأذن على النبي رجل، فقال: بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل على النبي صلى
الله عليه وسلم، ألان له الكلام، فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما
قلت؟ فقال: إن الله يبغض الفحش والتفحش" 2.
وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: من حكمة الرب تعالى، أنه ابتلى عباده
المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من
الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع:
الصنف الأول: من عرف الحق فعاداه حسداً وبغياً، كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين، كما قال تعالى: {بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
مُهِينٌ} [سورة البقرة آية: 90]، {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 146].
الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأموال، الذين
فتنتهمدنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه
وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبؤوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه.
الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، فهم يظنون أنهم على حق وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}
[سورة الكهف آية: 104]. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم أعداء الحق، من
لدن زمن نوح إلى أن تقوم الساعة. فأما الصنف الأول: فقد عرفت ما قال الله
فيهم، وأما الصنف الثاني: فقد قال الله فيهم: {فَإِنْ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50]. وقال عن الصنف الثالث: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22]، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [سورة الصافات آية: 69-70].
------------------
1- صحيح البخاري: كتاب الفتن (7108), وصحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع
الصلاة (532) وكتاب الفضائل (1337) وكتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2879),
وسنن ابن ماجة: كتاب الفرائض (2746), ومسند أحمد (1/30, 2/40, 2/110,
5/348), وسنن الدارمي: كتاب السير (2518).
2- البخاري: الأدب (6054), ومسلم: البر والصلة والآداب (2591), والترمذي:
البر والصلة (1996), وأبو داود: الأدب (4791, 4792), وأحمد (6/38).