زلزالٌ عقليّ ونفسيّ ضَرَبَني وأنا أقرأ أخبار المجاعة في الصومال, زلزالٌ تَعَاظَمَت قُوَّتَه حينما نبَّهَنِي عقلي أنَّ مجاعةَ الصومال ليست أكثر من "نموذجٍ" لمجاعاتٍ أُخرى صغيرة, مختبئة, في بيوت ملايين الفقراء حول العالم.
هزَّة فكريَّة كشفت لي عن فردية وأنانية مقيتة تحكمني, ففي قلب المجاعة التي فتكت بمئات الآلاف معظمهم من الأطفال كيف أسمح لنفسي بدفع خمسين أو مائة جنيه في وجبة تافهة لا تتجاوز قيمتها الحقيقية ربع الثمن, لمجرد "التجربة", والشعور بنشوة تناول طعام الفئات الأعلى دخلًا؟؟.. كيف سمحت لنفسي بإنفاق معظم دخلي في شراء كماليات الطعام؟ أمثال تلك الوجبات وغيرها من المقبلات والمشهيات. مشهيات؟!.. كيف سمحت لنفسي بتناول طعام تصنيفه أنه "مشهيات" في حين أنَّ شهيتي مفتوحة أصلًا, والأمر لا يتعدى كونه مزيدًا من الفجور في إهدار مال الله
متى انتحرت إنسانيتي لأفعل هذا كله في قلب المجاعة وأمام أعين أمهات يموت أطفالهن جوعًا؟ وكيف ارتضيت لنفسي أن تكون إحدى أهم أسئلتي التي أبحث لها عن إجابة "أيّ أنواع الطعام المتاحة أمامي يمكن أن ألتهمها لكي أصبح أكثر رشاقة وأخفف من كتل الدهون التي خلفتها الأنواع الأخرى؟, في حين يموت غيري جوعًا و"رشاقة"!
ما هذه المفارقة المخزية التي أعيش وأتعايش معها دون أدنى تأنيب للضمير؟!
إنَّني لا أعرف هل كنت أفهم ما أردده عن الأخوة في الدين والإنسانية أم أنَّ الأمر لم يعدو كونه إعجابًا بالقائلين بمثل هذه الخطابات, ورغبة في التشبه بهم دون إدراك لأي بعد عملي يستتبعه الإيمان بهذه الأفكار؟
من أين أتيت بكل هذا الكم من الصفاقة التي سمحت لي بالادعاء أنني "أخ" للصومالي والباكستاني والقوقازي, وأنا لا أعرف عنهم شيئًا, بل ولست مهتم بالمعرفة, ومجرد السؤال عن حالهم, لا أعرف من هؤلاء أصلًا, لا أعرف أن الفقر والاضطهاد من ملازمته إياهم أصبح هوية ومتلازمة يعرّفون بها؟
فلتحيا الأخوة..
أرجوك لا تسكّن ضميرك بمسكن فهمك المشوه لآية "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"، فأنا وأنت ندرك جيدًا أنَّ تلك الطيبات ليست مباحة هكذا مطلقًا بأي كم وأي كيف, أنا وأنت في غير حاجة لمحسنات بديعية أو صيغ أدبية نجمل بها حقيقة أننا نحن "المسرفين" الذين لا يحبهم الله ولا يرضى عنهم, أننا نحن الذين هبطنا بأمتنا لقاع الأمم, وبكل وقاحة أطلقنا على أنفسنا لقب "الملتزمين" في حين أننا من جرَّدنا ديننا من أهم تطبيقاته المتمثلة في الجماعية والتعاضد.
على أية حال, لي بضع كلمات أريد إرسالها لمن هم في الصومال .. ربما ستكون قد فعلت لهم شيئًا إن اختصرت جهودك في محاولة إيصال هذه الكلمات ولو لفردٍ واحدٍ منهم:
أخي الصومالي.. هل تأذن لي في اعتباري أخا لك؟ هل ترضى بأخ مثلي؟, أتخيل كم المجهود النفسي الذي أفرضه عليك لكي تعفو عني بعد كل ما سببه لك جفائي من مآسي وأحزان.. أعرف أنك إن كفرت بأخوتي فأنت المحق, فأنت إما أن تموت جوعًا أو تعيش لتواجه من يحاربونك لأجل اللاشيء, وأنا السبب وهم النتيجة, إنني على كل حالٍ هنا, إلى جوارك, كل ما أريدك أن تعرفه أن على الأرض من يحبك دون أن يعرفك, أنَّ على الأرض من يأخذ من طعامه ليكفيك جوعك, ولا يريدك أن تعرفه!