الأمر بتذكر الموت والاستعداد له
قال نبي الله
سلم : «أكثروا من ذكر هاذم([3]) اللذات» رواه الترمذي.
وثبت عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه أن نبي الله
سلم قال: «استحيوا من اللّه حقّ الحياء». فقلنا: يا نبي الله، إنّا لنستحيي. قال: «ليس ذلك، ولكن من استحيا من الله حقّ الحياء فليحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك فقد استحيا من اللّه حقّ الحياء» رواه الترمذي.
وعَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ([4]) الْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: «يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا» رواه ابن ماجة.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا. هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» رواه الترمذي.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: أخذ رسول الله
سلم بَمنْكِبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" رواه البخاري.
فعلينا أن نسارع إلى العمل الصالح، وأن نكثر منه، قبل أن نندم كما يندم المشركون }حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{(المؤمنون/99).
لماذا نتذكره؟يجيب نبينا
سلم بقوله: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» رواه الترمذي. وللبزار: «فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقه عليه».
وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله
سلم: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة، ولا تقولوا هُجْرا» رواه مسلم وأحمد. ولأحمد: «فإن فيها عبرة».
وللحاكم: «فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة».
أين نموت؟قال تعالى: }وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ{(لقمان/34).
وقال نبينا
سلم : «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له فيها حاجة» رواه ابن عدي في الكامل، والطبراني.
متى نموت؟لا يعلم المرء متى ذلك، فإنما هي أيام معدودة، وأنفاس محسوبة، قال تعالى: }ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها{(المنافقون/11). والأجل: مدة الشيء.
وقال: }اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى{(الزمر/42).
وقال نبينا
سلم : «إن روح القدس قد نفث في رُوْعِي([5]) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها» رواه البيهقي في الشعب.
ولا يخير إلا الأنبياء:
فقد خُيِّر نبي الله
سلم واختار الرفيق الأعلى. والرفيق الأعلى من ورد ذكرهم في قوله تعالى: }وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا{ (النساء/69).
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي
سلم فقال: «إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله». فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ!؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله. فكان رسول الله
سلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا.
وخُيِّر موسى عليه السلام. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له: (يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة). قال: أي رب ثم مه؟ قال: (ثم الموت). قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فقال رسول الله
سلم: «فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر».
من منا يحب الموت؟مما لا ريب فيه أنه لا أحد يحب الموت..
ويدل لذلك حديث عبادة بن الصامت الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن رسول الله
سلم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». فقالت عائشة رضي الله عنها: إنا لنكره الموت! فقال: «ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموتُ بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيءٌ أحبَّ إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه كره لقاء الله وكره الله لقاءه».
فدل هذا الحديث على أمرين:
الأول: أنه لا أحد يحب الموت، ولا يكون إثمٌ بذلك، ولو كان إثماً لبين ذلك رسول الله
سلم لعائشة رضي الله عنها ولا أنكر عليها.
الثاني: أن المؤمن في لحظة الاحتضار لا أحب إليه من الموت.
وبذا تكون إجابة ما طرح من سؤال في عنوان المقالة: المؤمن في احتضاره.
وسبب ذلك: أنه يرى ما أعد الله له من النعيم، وفي الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. و«موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» كما أخبر نبينا
سلم في الصحيح، فكيف بما أورثه الله منها؟!
وقول نبينا
سلم: «فليس شيء أحب إليه مما أمامه» دليل على أنه لو خير بين البقاء بين زوجه، وأهله، وولده لاختار الآخرة.
وأما الآخَرُ فلست أكتب للحديث عنه، وإنما أريد أن أخص بحديثي من يؤثر الموت على الدنيا ويحبه، ولا يعدل به شيئاً.
ولقد دلت سنة نبينا
سلم على أمرين آخرين يشحذان الهمة لسلوك الطريق المستقيم..
الأول: أن الميت الصالح يتمنى أن يعجِّل الناس بدفنه.
والثانية: أن الميت إذا وضع في قبره لو خُير بين أن يبقى فيه وبين أن يرد إلى أهله لا اختار قبره على أهله ودنياه.
أما دليل الأول فحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله
سلم قال: «إذا وُضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيء إلا الإنسانَ ولو سمعه صَعِق» رواه البخاري.
وأما دليل الثاني: فما رواه الشيخان في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي
سلم قال: «ما من عبد يموت له عند الله خير، يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد؛ لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى».
وتأمل قول نبينا
سلم: «وأن له الدنيا وما فيها»، فليس يتمنى الرجوع إلى داره الصغيرة التي كان يسكنها، بل لو خير بين قبره وبين أن يعطى الدنيا ومثلَها معها لاختار قبره؛ لما فيه من نُزُل كريم من رب رحيم.
فما أعظمه من حديث! إنه لو لم يكن في السنة ما يحمل على الشوق إلى لقاء الله والزهد في الدنيا غير هذا الحديث لكفى!
فهذه ثلاثة أحاديث دلت على ثلاثة أمور:
أن المؤمن يتمنى الموت ويفرح به إذا حُضر.
وأنه يتمنى أن يعجل الناس بدفنه.
وأنه لو خير بين قبره والرجوع إلى أهله مع الدنيا ومثلها لاختار قبره.
وسبيل التوفيق لهذا المصير: تعمير الوقت بطاعة الله، والإكثار من دعاء رسول الله
سلم: «وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك» رواه النسائي.
النهي عن تمني الموتنهى النبي
سلم عن تمني الموت في حديثين:
الأول: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» رواه البخاري ومسلم.
الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النَّبِيِّ
سلم أنَّه قال: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ» رواه البخاري.
والمعنى: يسترضي الله بالإقلاع عن الذنوب والاستغفار وإصلاح الحال.
وأما قول يوسف عليه السلام: }توفَّني مسلماً{ (يوسف/101).
فالجواب عن الاستدلال بهذه الآية على جواز تمني الموت من وجوه:
1. إمَّا أنَّ يوسُفَ عليه السلام قال ذلك عند احتضاره، كما قال النبي
سلم عند ذلك: «اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى» رواه البخاري ومسلم.
2. وإما أنه سأل الموت منجزاً وكان ذلك في ملتهم سائغاً. ولو صح ذلك فإن شرعنا مقدم على شرع غيرنا إذا عارضه.
3. وإما أنه سأل الثبات على الإسلام، بمعنى إذا حان أجله كان من المسلمين "كما يقول الداعي لغيره: أماتك الله على الإسلام. ويقول الداعي: اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين"([6]).
والأمر الثاني دعوة مريم عليها السلام: }يا ليتني مت قبل هذا{ (مريم/23).
والجواب ما قاله ابن كثير رحمه الله: "فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم -فيما يظنون- عاهرة زانية، فقالت: }يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا{، أي قبل هذا الحال، }وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا{، أي: لم أخلق ولم أك شيئًا... وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة، عند قوله: }تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ{"([7]).
ومن هذه الأحاديث والآثار التي أوردها رحمه الله وهي دالة على جواز تمني الموت عند الفتن:
دعاء النبي
سلم: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك» رواه الترمذي.
وحديث محمود بن لبيد رضي الله عنه ، أن النبي
سلم قال: «اثنتان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير من الفتنة. ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب» رواه أحمد.
من مات وأحياه اللهذكر الله تعالى في سورة البقرة خمس قصص لمن مات وعاش بعد موته..
الأولى: قصة بني إسرائيل. قال تعالى: }وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{ (البقرة/55، 56).
والثانية: قصة صاحب البقرة.
والثالثة: قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال الله لهم: }موتوا ثم أحياهم{ (البقرة: 243)، وقد خرجوا فراراً من الموت بعدما تعين عليهم الجهاد على الصحيح من قولي العلماء؛ استدلالاً بالآية بعدها: }وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ (البقرة/244).
والرابعة: في قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: }أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه{ (البقرة: 259).
والخامسة: في قصة إبراهيم: }رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي...{ (البقرة: 260) الآية. والله تعالى على كل شيء قدير، ولا ينافي هذا ما ذكر الله في قوله: }ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون{ (المؤمنون: 15، 16)؛ لأن هذه القصص الخمس وغيرها –كإحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله- ثبتت بنص فلا يُزاد عليه، وإلا فالأصل أن من مات لا يبعث إلا في يوم القيامة، قال تعالى: }ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ{ (المؤمنون/15، 16).
ما يتبع الميتعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله
سلم: «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله» رواه البخاري ومسلم.
فعلى المسلم أن يديم العمل الصالح؛ فإن الإنسان يبعث على ما مات عليه، قال النبي
سلم : «الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها» رواه أبو داود. والمراد: العمل.