ميلاد فكرة !.....

الانسان - ما هذا الذى يهز جدران رأسى ؟....
الفكرة - فكرة...
الانسان - و ماذا تريدين ؟....
الفكرة- الخروج...
الانسان - الآن؟...فى جوف هذا الليل؟...و الناس نيام،و النعاس يغلق منى هذه الأجفان؟!...
الفكرة - نعم...الآن...إذا لم أخرج الآن فلن أخرج أبداً...
الانسان - ألا ترين أنى أتثاءب؟....و أنى لا أكاد أتماسك ؟!...أولا تستطيعين انتظاراً حتى الصباح؟!...
الفكرة - لا أستطيع انتظاراًُ...الآن يجب أن أخرج...
الانسان - و لماذا اخترت لى هذا الوقت الذى أغرق فيه نوماً؟...
الفكرة - لست أنا التى تختار،لقد تكونت فى رأسك كما يتكون الجنين فى بطن أمه ،و نضجت للنزول...
الانسان- و كيف لم أشعر بك من قبل ؟!...كل ما شعرت أن رأسى فارغ كالقربة المثقوبة...
الفكرة- إنى أتكون على غير وعى منك...منذ أمد بعيد...و الآن قد تكونت،و حان موعد خروجى...
الانسان - خروجك إلى أين؟...
الفكرة - إلى الدنيا...إلى الورق...انهض أيها الخامل و ضعنى على الورق،و انشرنى على الملأ...
الانسان - يا لك من مغرورة !....و ماذا يجرى للدنيا من خروج مثلك الآن؟!...
الفكرة - من يدرى؟...ربما تغير وجهها...و ربما إزداد جمالها...و ربما انقلب أمرها أخطر انقلاب!...
الانسان - بك أنت؟!...
الفكرة - نعم...بى أنا...و ليست هذه أول مرة أفعل ذلك...
فهذه الأهرام التى تبصرها من نافذتك إنما هى فكرة...
و هذه الكهرباء التى تضىء حجرتك كانت فكرة ...
و هذا الراديو الذى يسمعك صوت العالم هو فكرة...
و هذه النهضات التى ظهرت فى الأمم بدأت فكرة...
و هذه الأديان التى سمت بالبشر برقت فكرة...
و هذا الفن الذى نعمت به الإنسانية لمع فكرة...
بل كل حضارة الآدميين على الأرض وليدة فكرة...
و كل الفرق بين نوع الإنسان و فصائل الحيوان،
أن الفرد من الإنسان يلد الفكرة،و الفرد من الحيوان لا يلد الفكرة...
فقم و اطرح عنك الكسل ،و افرح؛ لأن فى رأسك فكرة...
الانسان - و هل أنا وحدى الذى فى رأسه فكرة !...
أليست هنالك فكرة فى كل رأس من رءوس هؤلاء الملايين من الناس؟...
الفكرة- نعم...و لكن قليلاً جداً من بينهم من تخرج لهم فكرة...
الانسان - إذن قيمتك أن تخرجى...
الفكرة - نعم...و أعيش...وهذا أقدر أحداث الأرض...
و إذا كان لك إلمام بالحساب فتناول قلماً و ورقاً و أنت ترى العجب..
.إن على الأرض أكثر من ألف مليون شخص...
فإذا فرضت أن مليوناً واحداً فقط ينتج فى كل قرن من الزمان فكرة
،لكان فى العالم مليون فكرة حية فى كل مائة سنة...و هذا لا يحدث أبداً ..
.فإن القرن الذى ينتج عشر فكرات تعيش و تنفع الناس،
يسمونه عصر النهضة،أو العهد الذهبى للبشرية !...
الانسان - لايكفى إذن أن تخرجى من رأسى...
الفكرة - لا...ليس هذا بكاف...
إن الأفكار التى تخرج كل يوم من رءوس المفكرين و الشعراء و الفنانين و العلماء كثيرة العدد...
و اليوم-على الخصوص- قد تضاعف محصولها...
لأن صناعة التفكير قد انقطع لها عدد وافر من محترفى الفكر...
يملأون الصحف و الكتب أفكاراً،يزعمون كلهم أنها كونت من زبدة الخلود...
و هى فى أغلبها لم تصنع إلا من شىء كزبدة الفطائر التى تذوب فى الأفواه مع قدح الشاى كل صباح!..
الانسان - كنت أحسب المهم مجرد خروجك من الرأس...
الفكرة - المهم هو حياتى بعد ذلك...
الانسان - ربما كان المهم أيضاً...ليس مجرد حياتك؛ بل طول هذه الحياة...
الفكرة - صدقت!...فقد أحيا فقط سنة واحدة،كما تحيا البدعة أو ¬الموضة....
و هذا لى أسخف أنواع الحياة!....
الانسان - كم سنة تريدين أن تعيشى إذا خرجت من رأسى ؟......
الفكرة - أكثر منك أعواماً على كل حال.... أضعاف حياتك على الأقل ...
إنى أتمنى أن أراك فى التراب و قدنخر عضمك و أنا فى تمام صحتى و اكتمال روعتى!.....
الانسان - لعنة الله عليك و على تمنياتك!....
الفكرة - أو لا يسرك أن أعيش بعدك؟...
الانسان - بل يسرنى أن أعيش أنا بعدك و لو ساعة!....
الفكرة - و ماذا تصنع بعمرك و قد ماتت أفكارك ؟...
و ما طعم حياة الأب الذى فقد أبناءهوو عاش إلى آخر دهره وحيداُ !؟!....
الانسان - هذا حقاُ مؤلم... و تلك مصيبة من ينجب الأبناء و ما دام فى إمكانى أن أمنع ميلادك ...
فلماذا لا أفعل؟ ...إن فى خروجك متاعب....
الفكرة - و فى خروجى أيضاً مزايا!...
الانسان - ما هى هذه المزايا؟...
الفكرة - أن ترانى مخلوقاً تام التكوين.يشبهك و يذكرك بعيوبك.و يعيش أمامك مرآة لطباعك.
و خزانة لصفاتك و فضائلك.و استمرار لوجودك.و قد يعجب الناس و ينفعهم فيرضى غرورك....
الانسان - حقاً...غرورنا وحده هو الذى يسمح لمثلك بالخروج...
الفكرة - و لهذا يحسن بى الانتفاع بهذه الطبيعة فيكم....هيا أخرجنى!....
الانسان - و لكنك لم تخبرينى ما مصلحتك أنت فى الخروج؟!
الفكرة - ما أحمق سؤالك!...أتستطيع أن تسأل خلية عن مصلحتها فى الحياة!؟...
إن الرغبة فى الحياة ملتصقة بذات وجودنا!...
الانسان - أنت إذن موجودة الآن فى رأسى؟...
الفكرة - طبعاً...و هأناذا أصيح بك و ألح طالبة الخروج إلى الحياة....
الانسان - انتظرى قليلاً,حتى أحضر قلماً و ورقاً...
الفكرة - حذار أن تبطىء...
الانسان - و ما الضرر؟...
الفكرة - أحس أنفاسى توشك أن تخمد,ونورى يوشك أن يخبو....
لقد ناقشتنى طويلاًو و استنفدت قواى,و أنهكتنى و أتعبتنى قبل أن أولد...
الانسان - يا لسوء الحظ!...القلم ...نسيت موضعه ...
.أما الورق فلا يوجد الساعة غير هذه الورقة على المائدة ....
و هى ملفوفة بها الفطائر التى أحضرتها لفطورى....
أما و قد أيقظتنى من نومى اللذيذ ,فلا أقل من أن ابدأ بالطعام ..
فلا نفع لرأس ممتلىء إذا كانت المعدة خالية....تجملى بالصبر إذن,
و انتظرى حتى نفرغ من أمر الفم,ثم نعنى بأمرالعقل ,
و ثقى أنى سأسرع و لا أجعلك تنتظرين طويلاً,
و أثناء المضغ نبحث لك عن القلم الضائع ,و هأناذا أبحث ...
و ها هو القلم فوق الخوان . لا بأس الآن من إخراجك أيتها الفكرة...
هلمى ...تكلمى...اخرجى..يا للعجب!...مالك؟
...ما هذا الصمت ؟... ما هذا السكوت؟...أين أنت؟!
...أين ثرثرتك التى أيقظتنى؟...أيتها الفكرة؟
...انطقى!...لا توقفى اللقمة فى حلقى!
...أين أنت؟...هل ذهبت؟..هل مت؟...و اأسفاه!...لقد مت قبل أن تولدى...
نعم ,ما من شك فى أنها ماتت فى رأسى قبل أن تولد ...أترانى أبطأت عليها؟
...أتراه ذنبى أم ذنبها ... ما علينا...فلتذهب هى إلى أعماق جهنم !...
و أنا إلى نهاية الأكل ثم إلى فراش النوم!...
ليست هذه أول مرة تصنع بى ما صنعت,و لست أنا أول من يحدث له هذا...
إنماهى فكرة تولد و تموت....أو تموت و لا تولد,
كغيرها من ملايين الأفكار التى تهز رءوس الملايين من الناس
,ملايين المرات فى ملايين اللحظات!...

راهب الفكر
توفيق الحكيم