"الصلاة خير من النوم.. الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله".. أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله على كل حال.. اللهم ارزقنا خير هذا اليوم.. فواتحه وخواتيمه.. واعف عنا ذنوبنا.. فأنت أرحم الراحمين..
"شكراً" صباحية جديدة.. بل ألف "شكراً".. ما علمتني إياه أيها "المجنون" معاذ.. قزّم كل شهادات الدنيا.. بل قلب القاعدة التي حفظتُها على لسان أحد أساتذتي "في وسع العقل وهو مقيم.. أن يصنع جحيماً من الجنة.. أو جنةً من الجحيم".. رأسا على عقب.. فصارت.. "في وسع القلب وهو رحيم.. أن يصنع من أقل الدروس عبرةً.. يأخذها العاقل حتى من المجانين"..
كان يوماً لن أنساه ما حييت.. ما تزال يدكَ المرتجفة طوال الطريق نحو البيت.. تهزُ أوتار قلبي.. وما يزال دمعكَ الذي بلل صدري يغسلُ عنه ظلم سنواتٍ عشر.. قضيتها أشعر "بالعار" لأنك أخي!!..
"سامحني".. هي لحظاتٌ اختزلَ فيها العمرُ العمرَ.. لحظاتٌ عادت بذاكرتي نحو يومٍ هو الآخر من أيام عمري.. كنت تكبرني بعام.. كنت جعبة أسراري.. منقذي من عبث أبناء الجيران ممن هم أكبر مني سناً.. كنت صاحبي وحبيبي وأخي.. وأنا افتخرت بأنك يا أخي.. أخي..
كان عمرك حينها عشرة.. وكان يومها مشهوداً.. امتطيتَ سور بيتنا.. ووقفتَ تتباهى بأنك أطول أبناء الحي.. "غبطتُك".. وقلت لنفسي سأكون مثله العام القادم.. هي لحظات.. لحظاتٌ فقط.. وجدتك تجاورني البقعة.. ورأسك ينزف.. "دماً".. وقلبي أنا نزف "قهراً".. لماذا يا ربي؟.. ومضى اليوم.. وأفقتَ في التالي.. أفقتَ وكأنكَ لم تكن أنت.. غادر لسانك كل الكلام.. وقتَلَتْ أهازيج "الهَبَل" التي غنيتَها كل حديثٍ جميلٍ كنت أسرّيت به إلي.. وبدأت حكاية معاذ "المجنون"..
لم تكن حركات "الجنون" تليق برجاحة عقلك التي عهدتُها فيك.. أخذ معي استيعاب الأمر أياماً.. بل شهوراً.. وسلمتُ للواقع عقلي.. وقلبي أيضاً.. أنا أخو معاذ المجنون.. يا لها من قسوة.. كنت كثيراً ما أمرُ عنك وأولاد الجيران يضربونك بالحجارة.. أمر وكأنني لا أعرفك..
أنا عاقل.. وأنت مجنون.. مجنوووون.. فلتحتمل تبعات هذا اللقب وحدك.. كم من مرةٍ قابلتني فيها عائدين من المدرسة أنا ورفاقي.. تعترض طريقي.. تؤدي حركات استعراضية "غالباً ما كانت تحرجني".. فأكون كأنني قابلت عفريتاً.. أتجاهلك.. وأمضي.. "و.. تحوّلَ فخري بك.. خجلاً.. عاراً.. ووصمة".. لا أطلب منك الصفح أنت.. بل أطلبها من ربي أولاً.. ومن جدي ثانياً.. لطالما قال لي :"من علامات العاقل أن يتواضع لمن فوقه.. وأن لا يزدري من دونه".. فأي مجنونٍ كنتُ أنا؟؟..
كلما نظرتُ إليكَ اليوم.. شعرتُ بقلبكَ ينبضُ حباً لي.. يناديني بأحب الأسماء إلى قلبي.. "مودي".. "مودي" الذي خذلك مراراً.. وأوقَظَتْهُ صرخاتكَ حينما كنتَ على شفا حفرةٍ من الموت.. أو أقرب.. كنتُ يومها نائماً كعادتي وقت العصر.. وأنت تهيم في الشارع.. لا أدري إن كنتَ تعرفُ إلى أين تدفعكَ الخطى.. "سامحني".. لو كنت أعرف أن "الجنون" خلق من قلبك قلب طفل.. لعاملتك كما يعامل الطفلَ الطفل.. صوتُكَ أدمى طبلة أذني.. جريت نحو النافذة.. رأيتك ترمقني بنظرات استجداءٍ.. "فاقدةَ الأمل".. تحرك يديك وكأنك تقول لي.. خلصني منهم.. إنهم أطفال الجيران.. لفوا عنقك بحبلٍ وشدوه حتى ازرق وجهك.. فقدت عقلي.. جريت.. وعلى السلالم كدت أقع.. ضربت براحتي كل الحوائط..
تمنيت لو أن جسدي يمزق كل باب حتى أصل إليك بأقوى سرعة.. ووصلتك.. شتمت أبناء الجيران "يا همج.. يا قليلو الرباية".. انفضوا وتجمع حشدٌ من الرجال.. وأنت اندفعت نحو صدري.. غرزت أظافرك بمنكبي وكأنك تقول لي :"كما حميتك بالأمس.. احمني".. ارتجاف يديك هزّ أوتار قلبي.. ودموعك التي بللت صدري العاري غسلت عنفوان رجلٍ.. عدّ نفسه من العقّال يوماً..
آااااه.. آه.. كلما ذكرت الموقف أجهشت بألف دمعة.. ألف كلمة "آسف".. أنطقها ندماً.. كان مشهداً مريعاً.. صعدتُ بك نحو أمي.. احتضنت رأسكَ وبَكَتْ.. وبكيت أنا على وقع دمعها.. قرأَتْ عليك سورة البقرة.. وعرفتُ حينها أنها الوحيدة.. الوحيدة التي رضيت أن يقترن اسمها باسم "مجنون".. هي أم معاذ.. أم "المجنون"..
ما تعلمته على يدك أخي الحبيب كان كفيلاً بأن يمزق كل شهاداتي الابتدائية والإعدادية.. حتى الجامعية.. درسك "غير المقصود".. كان عبرة.. أيقنتُ بعدها أن النور لا يكفي حتى نرى.. بل لا بد أن يكون في النور شيء نراه حتى نرى.. أعطيتني يا أخي عبرة جيل.. "أن أنظر في ذنبي.. كأنني عبد.. وأن لا أنظر في ذنوب الناس.. كأنني رب.. علمتني أن الناس معافى ومبتلى.. فحري بأهل العافية أن يحمدوا الله على.. العافية..
أخي الحبيب.. علمتني أن العيب ليس "بابتلاء من الله" لا يد لنا فيه.. وأن الخجل.. لا يكون إلا من خطأ.. علمتني أن أنسى ظلم المجتمع "لذوي الاحتياجات الخاصة.. وأنت منهم".. علمتني أن أصدح بعلو الصوت.. نعم.. أنا أخو المجنون!!.. فهل من اعتراض؟؟